حلم على ضفاف النهر
" ما اصعب ان تصاب بداء عضال اسمه الفراق
فتداويه بداء مزمن اسمه الامل" .....
كان يبدو الامر امام عيني كحلم جميل يبدأ في التشكل في لحظات وجدته يكبر امامي الى ان يصل عنان السماء ويأخذني بعيدا عن العالم معه اينما ذهب ذهبت واينما حلق حلقت واينما ارتحل ارتحلت واينما سقط سقطت معه يبدأ الحلم كالنهر الجاري نحن قليلا ما نهتم من أين يبدأ او اين المنبع او حتى اين المصب لتلك المياه الجارية والتي كانت تبدو رقيقة كألحان سيمفونية من سيمفونيات بيتهوفن الرائعة او احدى معزوفات زامفير تمضي بلا توقف وبلا حواجز في كل مكان نحن البشر كثيرا لا نلى اهتماما لنهاية هذه القطرات المتدفقة فنراها تجري امام اعيننا تحمل الكثير والكثير من عبوات فارغة واوراق واعواد الحطب وزجاجات الزيت والكولا الفارغة وغيرها الكثير مما يثير قلق المهتمين بالبيئة والصحة العامة فهم يرون السطح منتفخا بالملوثات فيهرعون الى كتابة التقارير التى تحذر من خطورة تلك الملوثات الطافية, لكن قليلا من الناس بل نادرا ما تجد من هو يرى بما هو ابعد من ذلك ان يروا اشياء يستطيعون الاستماع والتحدث اليها بل وقضاء وقت ليس بقليل في حضرتها فتحمل الاسئلة الشائكة والاحلام العريضة والشكاوى البائسة والكثير من الذكريات وكل له مكانه ولا يرد النهر سائلا او شاكيا ابدا , وقد تعودنا ان نهتم- نحن البشر- فقط ونحب ان نراه يجري في مجراه الضيق امام اعيننا ,
لقد كان النهر العظيم يحمل الكثير والكثير من الذكريات الطافية احيانا والمغمورة احياناوالمترسبة ثقيلة الحراك احيانا اخرى وكلها ترافق النهر بل تذوب في مياهه الرقراقة المتدفقة بهدوء وسرية بلا ضجيج ولا اعلان عما قد يزخر به من المفاجئات والمدويات والصخب ولم يكن للنهر ان يبوح او يكشف اسراره من تلك الذكريات والتي يبدو بعضها سعيدة واغلبها ليس بجيدة بل حزينة يعاني اصحابها بحرقة وكلها تجرى جنبا الى جنب في نفس النهر وفي نفس اتجاه مجراه ,
حقا هذا ما قاله لي النهر الساكن- ولا اظن ان يكذب ابدا- عندما سألته لماذا صديقي العزيز تبدو حزينا هادئا وخجولا بعض الشيء ؟ ولما ارى فيك ما لم اره من قبل فقال لي انظر انها آتية من بعيد انظر الى ذلك الطيف هناك انها قادمة الي تشكو وربما ترمي بي بعضا من احزانها .. في الحقيقة كنت أحادثه احيانا كصديق مخلص يتحسس ويتلمس ويحزن واعتقد انني الوحيد الذي يستطيع ان اختلس منه بعض الذكريات الخاصة بي على الاقل والتي اثق به تمام الثقة في حفاظه عليها الى الابد واستطيع ان اجزم بأنه هو الصديق الوفي الوحيد على مدار عمري كله فهو يعطيني بلا مقابل ويؤنسني بلا ملل والناس عني ترحل يواسيني في شكواي والمي ويبتسم لي مداعبا اذا غابت ابتسامتي ويمسح دمعات تتوارى خلف جفنين وتأبى السقوط او تخجل من السقوط , كنت اجلس بالقرب منه عندما بدأت الامطار في الهطول فنظرت اليها بارتياح وابتسمت فقد جائني صديق اخر انا في اشد الاحتياج اليه ...
كانت هي الامطار تتساقط في كل مكان حولي كالؤلؤات اللامعة والماسات المتساقطة ذات رونق وزهو ولمعان , كان الجو باردا شديد البرودة وكان الناس يهرعون من حولي الى كل مكان كي يأمنو من ذلك الطقس السيء كما يرونه هم واكاد لا أرى من بجواري احدا , ولكن الامر بالنسبة لي يبدو عكس ذلك فقد كنت مؤنسا بعالمي الخاص حيث كنت بانتظار صديق جديد قادم والذي يأتيني بلا انتظام من وقت لاخر , كنت اجلس في الزاوية هناك تحت الجسر مراقبا زهور الياسنت تجري وترقص على وجه الماء فجلست وحيدا اراقب المشهد يعيني بينما كنت احادث اصدقائي النهر والمطر .
سقط الليل فجأة فظهر لي عن بعد ملاكا مزينا باجمل الازياء ويتحلى باجمل الجواهر كان منظره رائعا حقا ملاكا ابيض وبدا الامر كالسحر الذي ينتاب الجسد فيشعره بالقشعريرة للحظات ثم يبدأ في الارتياح والخمول والغفوة الى حد النوم وانا لم احرك ساكنا في تلك اللحظات حتى بدى مشهدا روحانيا بدأ يملأ جنبات الدنيا كلها , كانت تخطو باتجاهي تتحسس خطاها واحدة تلو الاخرى في خوف ربما او ترقب تهمس في هدوء مناجية النهر , كانت عيني تنظر في كل مكان حولي لعل شخص اخر بانتظار ذلك الملاك الرقيق والنجم الساطع والزهرة الدافئة تحرك نسمات الريح الرقيقة بعض شعرها الكستنائي الجميل ولكن حقيقة الامر انه لم يوجد غيري بهذا المكان الهادئ والذي اصبح اكثر هدوئا وملائكية بعد قدومها تحبو ببطء نحو النهر .
لم يكن من احد يتنفس ويتخفى في كومة من الملابس الشتوية الكثيفة حقيقة لا احد يقول بان هناك شخص يجلس هنا او هناك وكان المشهد بالنسبة للملاك القادم الذي اتخذ في شكله اجمل فتاة تراها عيني منذ ان وقعت في هذا العالم كانت ذلك الملاك الجالس بالقرب مني مختلفا بعض الشيء فهى لم تنطق بكلمة واحدة منذ جلوسها , حاولت جاهدا تفحص عيني لعلي مجرد رجل يشعر بالغفوة او انني احلم بعض الشيء ولكن في واقع الامر انني رأيتها ورأيت عينان عميقتان كانهما يحملان صفاء البحر وزرقته جلست وحيدة تبكي بحرقة وابتسامة سارت نحو الاختفاء مرسومة على وجه جميل في الحقيقة كان وجهها يبدو كلوحة جميلة يحمل اجمل ما في هذه الدنيا من عزوبة الالوان والاحاسيس الدافئة وكانت مليئة بالغموض والمشاعر العذبة الجميلة مجسدة عالما من الدفء والرحمات والجمال والحزن ايضا , كادت دموعها تختلط مع قطرات المطر المتساقطة من السماء حيث انني لم استطع ان افرق بينهما غير ان عيني التى رأتها وصديقي النهر والذي اعتاد ان يستقبل ويحتضن الكثير والكثير منها بدا يمارس هوايته في جمع الاحزان منها ويرميها في مجراه وبكل اخلاص وحب اخذ النهر يرمي عليها بكلمات تواسيها
سألت عينيك البحرية
لم تبكى؟؟
تحادثني احادثها
ترميني بالزهر وارمي
كلمات كامواج تعلو
تبحث تتفقد فيها
وتسير قوارب شاردة
تغرق لحظة رؤيتها
تنتظر نجاة من صمتى
تتوسل اليها ومنها
خطفت ايديها الزهر
تتحدق في النهر قائلة
هذا زهري وفرائط عقدي
ورقائق زهراتي وعطري
اعطي هذا الفتى الواقف هناك زهرة فكم هو يعشق الزهور مثلك يقول لها النهر ثم وجدتها تأتيني وتعطيني اجمل زهورها فصار لها ركن اصيل في قلبي وصرنا على مهل سويا على سطح الماء قلت لها تعالي لا تخافي يا صغيرة سيحملك النهر كما يحملني وكان نسيم الزهر يسبح حولنا في كل مكان وكأننا في الجنة وكان شيئا ما يشق طريقه الى صدري وكانت الدموع في عينيها تجف شيئا فشيئا ويتفتح وجهها الملائكي شيئا فشيئا وفي لحظة بدأت ابتسامة رقيقة ترتسم عليه فجائتنا الطيور الجميلة من كل لون مغردة حولنا كانت تسير بجواري كفراشة بيضاء همست لها في العراء وثمة كلمة تخرج من قلبي دون لساني اليها تقول "احبك" فأبى الصمت ان يخفيها اكثر من ذلك وهنا وجب علي القسم وقولت لها تالله لا ابرح حتى ارجعها بسمات رحلت عن وجهك وامال عريضة قد رحلت عن وجهي وهنا تمنيت لو آتيها بكل ما هو جميل في الدنيا من حولنا فبدأنا في مداعبة الطيور وقطف الزهور الجميلة وطلبت منها ان اراقصها على سطح الماء وبدأت تحادثني واحادثها عن مستقبلنا الجميل الحافل بالاحلام والاماني العظيمة وكانت عينيها تسبح حولنا في كل مكان وكأنها بحرا من احلام الملائكة قد فاض علينا فظلت ترميني بالزهر وارمي في كل مكان من حولي وكانت برائتها تستحق اشعاري الصغيرة التي حاولت ان اصف بها روعة الموقف وذاك الحلم الذي نحياه سويا .
ولن اكون كاذبا اذا اخبرتكم ان هذا الحلم العظيم والذى بدا لي كطير ابيض يحلق بعيدا في السماء الزرقاء الصافية يرقص ويغنى ويبتسم فما اجمله من حلم وياليتني اظل في الدنيا حالما به الى ان اموت , ولا يمكنني ان انسى او اقلع عن ذلك المشهد الذي رأته عيني الباكية على حافة النهر , وكانت اللحظة التي قالت لي فيها "احبك الى ان الفظ انفاسي " تلك اللحظة حقا تمنيت ان اوقف تلك القطرات المتساقطة من عينيها وتمنيت ان اصل الى نبع ذلك النهر المتدفق من تلك العيون البحرية كي اقوده الى قلبي يتخذ منه مصبا وابقى الامر في ذاكرة صديقي النهر ,
ارى صديقي القديم قد اشتطات غضبا و حقدا وغيرة من جمال ما نحن فيه فقرر ان يتخلى عن كل مكرماته السابقة معي ويحتفظ بالملاك لنفسه فافقدها سحره فسقطت المسكينة في المياه تحاول الاستنجاد بي مرار ثم اختفت دون اثر فتصيح الطيور حولي وتذهب الرياحين وتسقط الزهور ويتوقف المطر ويظل النهر عابثا بي ضاحكا ضحكاته الشيطانية لا تقلق ربما تعود او لتعتبرها ذكرى من الذكريات الكثيرة التى تجري في جوفي توسلت اليه مرارا ان يعيدها لي ولكن دون ان يبالي وبدأ الصبح في التفتح وبعد قليل جاءت الشمس تطل علي معلنة نهاية ليلتي بجوار النهر وكثت انظر في النهر باكيا على ذهابها لعل شيئا ما قد يحدث حتى وجدت يد رقيقة لعجوز خلفى تقول لي أي بني " ما اصعب ان تصاب بداء عضال اسمه الفراق فتداويه بداء مزمن اسمه الامل " .
يوسف عبد الرحمن